تجربة هنري فورد .. هل حقاً تحتاج الشركات لمدراء ؟

 

يعتبر هنري فورد Henry Ford و الموديل T من سيارته معلماً رمزياً للعصر الصناعي والسعي لتحقيق الكفاءة بأسلوبٍ علميّ. وحتى النمو السريع والنجاح الهائل لمنافسيه في جنرال موتورز GM كان راجعاً في جزءٍ كبيرٍ منه إلى حاجتهم الماسة لحلولٍ إبداعية تتغلب على النجاح الساحق لإنتاجه.

إنّ الأسلوب الإداري المستخدمَ في البداية والمستبدل لاحقاً لدى شركة فورد مثالٌ على حتمية التحوُّل إلى المناهج الإدارية الحديثة, وحقل تجربةٍ هائل اجتمع فيه نموذجٌ من الأسلوب والفهم القديم للإدارة مع نموذجٍ من الأساليب والمفاهيم الحديثة, وكان في تنافسهما دروس عظيمة الأثر لدى شركة فورد، ولدى منافسيها، ولدى جميع المهتمِّين بالعمل الإداري. لذلك يعتبر الاطلاع على تجربة فورد الريادية في مقدمة الحديث عن الإدارة والنظريات الإدارية الباكرة درساً لا غنى عنه.

البداية مثالية رائعة!
ولد هنري فورد عام 1863 لأسرة أيرلندية من المهاجرين العاملين بالزراعة ونشأ في منطقة ريفية قرب ميتشيغن. افتتن منذ طفولته بتركيب الآلات التي كان أبوه وجدَّه من السبَّاقين إلى استخدامها في حقولهم ونمت معه مهارة تصليحها وتطويرها. في السادسة عشرة اشتغل ميكانيكياً مساعداً ثم تدرَّج في المعرفة والخبرة ومجالات العمل حتى أصبح كبير المهندسين لدى شركة إديسون Edison للإنارة. في عام 1896 وبعد سنوات من التجارب المنجزة في وقته الخاص تمكَّن من بناء سيارته الأولى المسماة بالكوادريسيكل Quadricycle. وفي سنة 1903 أسَّس شركة فورد موتورFord Motor.

كانت السيارة في مطلع القرن العشرين رمزاً للمكانة و الثروة و حيازتها حكر على الشريحة الضيقة من الأغنياء.أراد فورد تغيير ذلك فكان الموديل T مصمَّماً ليكون بمتناول الجميع و كان السبيلُ الوحيد لصنع سيارة كهذه هو إنتاجها بإعداد كبيرة و بتكلفة متدنية, أي بكفاءة عالية.

• أسس فورد معمله على تحقيق الكفاءة واللجوء إلى المكننة حيثما يتاح ذلك وتجزيء المهمات إلى أبسط عناصرها.
• استخدم فورد التحفيز المادي المشروط لعمَّاله و من يحقق الشروط يتلقى زيادةً تبلغ 100%.
• استخدم فورد الأجزاء القياسية القابلة للتبادل وتقنيات خط التجميع، وبالرغم من أنه لم يكن المخترع الأول لأيٍّ من هذين الأسلوبين, فإن له ولفرق العمل الموظفة لديه الفضل الأكبر في نشرها على نطاق واسع وما تلا ذلك من اشتداد وتيرة التصنيع في أميركا و ارتفاع مستوى المعيشة فيها.

لكن ما أوصلك إلى هنا لن يوصلك إلى هناك!

الآثار الجانبية لأساليب فورد إنذارات على خطأ المسار لكن لم تجد من ينصت لها:
إلى جانب الكفاءة العالية بل المذهلة التي حقَّقتها أساليب فورد على المدى القريب, ظهرت آثار جانبية جسيمة لا يمكن تجاهلها على المدى البعيد. كتب فورد في مذكراته بأنه لم يكن يهدف إلى محو مهارات العمال لكنَّ الواقع جاء بما لم يسعَ إليه. فكان من الآثار الجانبية لأساليبه في العمل إلغاء الحاجة لتفكير العامل وتقييد حركاته بالمبدأ الذي لا تنازل عنه: (السعي للقيام بمهمة واحدة بحركة واحدة حيثما أمكن) وما لدينا الآن في الواقع:

• محوٌ أو تقييد للمهارات. والاعتماد الأكبر في تحقيق التفوُّق على التصميم العلمي لمكان العمل وأدواته المرسومِ في المستوى الإداري الأعلى, وعدم التعويل على العنصر البشري في المستوى الأدنى أو في موقع العمل المباشر.
• تبعية أو خضوع كامل وتحكم حتَّى بالحياة الخاصة للعامل في سبيل تحقيق الكفاءة.
• كلَّما اشتد فورد في تسريع إيقاع العمل كان الاستياء يشتد في نفوس العمال.

في عام 1913 بلغت نسبة دوران اليد العاملة لدى فورد 380% وكان لزاماً عليه استئجار عشرة أضعاف العدد اللازم فعلاً حتى تمكن المحافظة على استمرار العمل.

تمسَّك فورد بالكفاءة حتى كاد يخنقها!

لم يكن لدى فورد أي شكٍّ في صواب الأساليب اللازمة لتسيير العمل المتنامي, وبالتالي لم يكن لديه أدنى فسحة للتراجع أو التغيير أو التنبُّؤ بتحوُّلات البيئة والشركة والتكيُّف معها ويقول في ذلك:
“ننتظر من رجالنا جميعاً الانصياع للتوجيه. لقد كان التنظيم شديد التخصّص وحلقاته المتوالية شديدة التعلُّق ببعضها إلى درجةٍ لا تتيح لنا مجرد التفكير في السماح للعمَّال باستخدام طرقهم الخاصة. لا أمل لنا في النجاة من الغرق في الفوضى إلا بتطبيق أشد درجات الانضباط حزماً ولا أرى كيف يمكن النجاح في الصناعة بغير ذلك. إنّ الهدف من وجود الرجال لدينا هو إنجاز أكبر قدر ممكن من العمل وتلقّي أعلى أجرٍ ممكن, ولو سمحنا لكل رجل بالعمل على هواه فإنّ الإنتاج سيتدهور وتتدهور معه الأجور أيضاً. إنَّ أبوابنا مفتوحةٌ دوماً لرحيل كل من لا تعجبه هذه الطريقة في العمل”.

تطلب تجميع الموديل T في البداية أي في عام 1908 اثنتي عشرة ساعة ونصف وفي عام 1920 تقلَّص الزمن إلى دقيقة واحدة وبعد خمس سنوات أخرى أصبح يعدّ بالثواني. في عام 1917 تمكنت خطوط إنتاج فورد من توليد أكثر من ضعفي الحصيلة الإجمالية لإنتاج بقية المنافسين في السوق وخلال الفترة الممتدة بين عامي 1909 و 1921 انخفض سعر الموديل T من 950 إلى أقلَّ من 355 دولار وارتفع الإنتاج من 18000 سيارة إلى 1250000 أي إنّ السعر انخفض إلى الثلث تقريباً و وازداد الإنتاج نحو سبعة وستين ضعفاً! لقد أصبحت فورد المؤسسة الأضخم والأكثر ربحاً في العالم.

وفي النهاية لم يصحَّ إلَّا الصحيح

بحلول عام 1927 كانت إمبراطوريَّة فورد العملاقة على وشك الانهيار! لقد فقدت موقعها القيادي ولا تكاد تقدر على الاحتفاظ بالمركز الثالث. وعلى مدى العشرين عاماً التالية تقريباً كانت عرضةً لخسائر متلاحقة تستنزف رصيدها الهائل وعاجزةً عن المنافسة الفعَّالة.

وفي عام 1944 تسلَّم القيادة هنري فورد الثاني حفيد هنري فورد المؤسِّس وعمره آنئذٍ ستة وعشرون عاماً وليس لديه تدريب و لا خبرة تذكر بالمقارنة مع جدّه! بعد عامين من تسلم القيادة تمكَّن من فصل القيادة المزمنة التي كان يحتفظ بها جدّه, ووضع مكانها إدارةً شابَّةً جديدة وأفلحَ بواسطتها في إنقاذ الشركة.

ليست هذه القصة قصَّةَ نجاح أو فشل شخصيّ, بل هي في المقام الأول تجربة موثَّقة في سوء الإدارة. لقد فشل فورد الكبير بسبب نظريّته الراسخة بعدم حاجة العمل إلى المديرين والإدارة. وما يحتاجه العمل في قناعته هو المالك- الرائد Owner-Entrepreneur و إلى جانبه المساعدون Helpers.

طبَّق فورد هذه القناعة بحزم. وكان يفصل أو يبعد أيَّ مساعد يتجرَّأ على التصرُّف كمدير, فيتخذ قراراً أو يقوم بتصرف دون أمرٍ من فورد. ولم تشفع لأحدٍ لديه مقدرةٌ ولا كفاءة ولا خبرة. لم يكن فشل فورد راجعاً إلى سوءٍ في شخصيَّته أو مزاجه بل إلى رفضه المبدئيّ قبول المديرين والإدارة كضرورة جوهريَّة مبنيَّة على المهمَّة والوظيفة لا على التوكيل من الرئيس-المالك. لقد كان صعباً على فورد القبول بأنَّ الشركة ليست نسخةً ضخمةً عن الورشة التي بدأ بها ونجح في إدارتها بنفسه نجاحاً منقطع النظير. ولم يرد النظر فيما كان منافسوه ينظرون فيه وهو أنَّ الإدارة لازمةٌ للمؤسسة ليس لأنَّ العمل أضخم من طاقة أي فرد وحسب, بل ولأنَّ عملَ المنظّمة أمرٌ مختلفٌ جوهريَّاً عن العمل الفرديَّ الخاص. إنَّ نموَّ العمل لا تقتصر نتائجه على تغيُّر كمَّي في الحجم بل يتبعه حتماً تغيُّرٌ نوعيٌّ. وذلك على غرار قولنا إنَّ الرجل البالغ ليس طفلاً كبير الحجم, والبحر ليس حوض استحمامٍ عملاقاً.

توفي فورد الكبير عام 1945 تاركاً ثروةً ماليةً طائلة لكن الجزء الأهم من تركته هو ذلك الأثر الباقي الذي خلَّفه في الصناعة وفي المجتمع الأميركي. يقترن اسم فورد في أذهان الكثيرين بالسيارة وتحديداً بالموديل T المتين المتقن والرخيص والذي غيَّر أسلوب الحياة في أميركا. لكن ينبغي أن نضع في المقدمة جانباً آخر مهمَّاً لدى فورد: المبادئ الإدارية التي اختبرتها شركته، وقيامه أيضاً باستئجار خدمات المنظِّرين والمجرّبين الإداريين الآخرين مثل فريدريك تايلور Frederick Taylor وبالتالي توفير المجال الذي يمكن تطوير و اختبار نظرياتهم فيه.

Comments are closed.

%d