ملخص كتاب معيار البتكوين – سيف الدين عموص

0

المقدمة
مع ظهور البتكوين وأولى صفقاته عام 2009م، ظهرت معه العديد من الاحتمالات الإيجابية، فهل من الممكن أن يمثل بداية لعودة الأسواق الحرة؟ وهل يمكن لهذه العملة الرقمية أن تتحول إلى النقد السليم الخاص بالقرن الحادي والعشرين؟ تعيدنا هذه الأسئلة إلى تحري أسباب ما يحدث حاليًّا من ضياع لرؤوس الأموال، وتقلبات العملة، وسيطرة الحكومات والبنوك المركزية على الاقتصاد.

فهل كانت هذه حال الاقتصاد دائمًا؟ وإن لم تكن، فما الذي أدى إلى هذه الكوارث الاقتصادية؟ يجيب مؤلف كتابنا عن هذه الأسئلة وغيرها، من خلال تحري السجل التاريخي للنقد، كما يناقش تأثير العملات الرقمية في الاقتصاد المستقبلي.

وسيط للتبادل

أبسط طريقة للتبادل عُرفت بالمقايضة، وكانت عبارة عن طريقة لتبادل السلع في المجتمعات البدائية الصغيرة، وكان إنتاج الأفراد مقتصرًا على أساسيات البقاء، ومع ظهور المجتمعات المتطورة أصبح الاقتصاد أكبر حجمًا، وتخصص الأفراد في العديد من الصناعات، وظهرت مشكلات عدة في ما يتعلق بالمقايضة البدائية هي: ندرة التطابق في القياسات، فقيمة ما ترغب به قد لا تساوي قيمة ما تعرضه، وندرة تطابق الأطر الزمنية، إذ قد يكون ما تعرضه قابلًا للتلف في مقابل أن ما تريده غير قابل للتلف، وأخيرًا ندرة تطابق المواقع، إذ ربما تريد مقايضة منزل بآخر وكلاهما غير قابل للنقل.

ولحل هذه المشكلات، استخدم وسيط التبادل، أي أن تبحث عن سلعة يريدها الطرف الآخر كي تتم المقايضة، ولعدم كفاءة هذه الطريقة من الناحية العملية، ظهر وسيط تبادل متفق عليه بشكل واسع وهو النقد، ويمكن لأي سلعة أن تمثل نقدًا ما دامت قابلة للبيع وبأقل خسارة ممكنة، وعديد من السلع أدت دور النقد على مر التاريخ كالفضة والنحاس والملح، ولوسيط التبادل المتفق عليه أهمية كبرى، إذ إن غيابه سيؤدي إلى تنوع الأسعار مما يعوق الاستثمار والنمو الاقتصادي.

مثلت حجارة الراي -وهي أقراص دائرية ثمينة بسبب صعوبة الحصول عليها- نظامًا نقديًّا جيدًا لسكان جزيرة ياب، ولكن مع ظهور الحضارة الصناعية فقدت حجارة الراي قيمتها بسبب سهولة الحصول عليها باستخدام الآلات الحديثة، وهذا ما حدث لمعظم السلع التي استُخدمت وسيطًا للتبادل، إذ إن الطلب المتزايد على السلعة يؤدي إلى ارتفاع سعرها، كما يحفز زيادة إنتاجها، فلو كانت زيادة الإنتاج هذه ممكنة بسبب توافر الآلات الحديثة كما حدث مع حجارة الراي، سيؤدي هذا إلى انخفاض قيمة وسيط التبادل حتى يتحول إلى مجرد سلعة، ويُعد الذهب السلعة الوحيدة التي نجت من هذه المعضلة، وأثبتت جدارتها كوسيط للتبادل، ويعود هذا إلى سببين أساسيين وهما: استقرار الذهب كيميائيًّا ومن ثم صعوبة تدميره، وكذلك استحالة تصنيعه من أي مواد أخرى.

الحروب العالمية والمعيار الذهبي

اختير المعيار الذهبي وسيط تبادل بواسطة السوق الحرة، ولم تتمكن الحكومات من إقناع الشعب باستخدام النقد الحكومي حتى تم ربطه بالمعيار الذهبي، وكان في مقدرة الأفراد تحويل الإيصالات والأوراق الحكومية إلى ذهب، وشهدت فترة الحرب العالمية الأولى نهاية عصر الوسائط النقدية بكونها خيارًا يتم تحديده بواسطة السوق الحرة، وحُددت المعايير بواسطة المراسيم الحكومية والسياسات النقدية، واستبعدت خلال هذه الفترة القابلية لتحويل النقود الحكومية إلى ذهب، مما نتج عنه عديد من المعضلات منها: أن العملات الحكومية تختلف عن الذهب، إذ تقع في فخ زيادة الطلب والإنتاج المذكور سابقًا، مما ينتج عنه خسارتها لقيمتها.

كما أن استبعاد تحويل الأوراق إلى ذهب مكن حكومات الحرب العالمية الأولى من الاستيلاء على ذهب الشعب كله وليس المخزون الحكومي فقط، مما نتج عنه تسليح الجيوش واستمرار الحرب لمدة أطول من المتوقع لها، كما طبعت الحكومات الكثير من الأوراق النقدية لإجبار شعوبها على استخدامها، مما أدى إلى كارثة التضخم وفقدان العملات لقيمتها، ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى ونفاد مخزون الذهب لدى الحكومات، كان عليها تعديل قيمة العملة تبعًا للمعايير الجديدة، ولكنها حافظت على قيمة العملات بقيمة ما قبل الحرب نفسها، مما نشأ عنه تعطل السوق الحرة وعمليات الإنتاج، إذ إن ثبات العملة أدى إلى ثبات الأجور بقيمة مرتفعة، مما أدى إلى معدلات بطالة عالية، والقيود المفروضة على الأسعار والمنتجين أدت إلى عجز في بعض السلع وفائض في أخرى.

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح على الحكومات دعم عملتها بالدولار الأمريكي، بعدما وعدت الحكومة الأمريكية بقابلية تحويل الدولار إلى ذهب، ولكن مع مرور الوقت لم تفِ الحكومة الأمريكية بالتزاماتها، ولم تستطع الحكومات المختلفة استرداد ذهبها، مما نتج عنه تضخم لعملات الدول النامية، والتضخم ليس مجرد ظاهرة سياسية أو حكومية، بل أدى كذلك إلى انهيار تام في الاقتصاد وأصبح الإنتاج مقتصرًا على السلع الأساسية، وفي بعض الدول حتى السلع الأساسية تحولت إلى رفاهية، وإلى يومنا هذا ما زالت مناهج الاقتصاد تلوم المعيار الذهبي.

عامل التفضيل الزمني

يشير مصطلح التفضيل الزمني إلى النسبة التي يقيم بها الأفراد الحاضر مقارنة بالمستقبل، أي أن الأفراد أصحاب التفضيل الزمني الأقل يؤجلون متعهم الآنية وفوائدهم اللحظية، ويقاومون الرغبة في الحصول على سلع استهلاكية، بهدف الادخار المستقبلي أو الاستثمار في سلع رأسمالية ذات مدى إنتاجي أطول وفوائد أعلى، وتتحكم عوامل عدة بمعدل التفضيل الزمني لدى الأفراد، ومنها: أمن الأفراد وتأمين الملكية، إذ يزيد معدل التفضيل في أماكن الحرب، أو عندما تكون الملكيات مهددة من قبل الحكومة، كما تؤثر معدلات الضريبة المرتفعة سلبًا في التفضيل الزمني.

وأحد أكثر العوامل تأثيرًا في التفضيل الزمني هو القيمة المتوقعة للنقد مستقبلًا، ففي الأسواق الحرة يختار الأفراد ما يرون أنه سيحتفظ بقيمته على المدى الطويل، مما يتيح الفرصة أمام الاستثمار وزيادة عمليات الإنتاج ومن ثم مستقبل أفضل وجودة حياة أفضل، ويفسر هذا ازدهار الحضارات ذات النقد السليم، وتفككها عند انخفاض قيمة النقد وتقلباته غير المتوقعة، ويُعرف النقد السليم من خلال ثلاثة أوجه، وهي: احتفاظه بقيمته مع مرور الزمن، مما يعمل على خفض التفضيل الزمني للأفراد، وتوفيره لوحدة حساب مستقلة تسمح بالتجارة الحرة والتخطيطات الاقتصادية.

والوجه الأخير والأهم هو أن النقد السليم متطلب أساسي للحرية، إذ يسمح للأفراد بمواجهة القمع، وتظهر تأثيراته جلية في القرن التاسع عشر، إذ سيطرت المشاريع ذات الأمد الطويل على النشاط الاقتصادي، مما نتج عنه عديد من الاكتشافات المذهلة التي غيرت وجه الحضارة كتمديدات الصرف الصحي التي أصبحت من بدهيات المجتمعات الحالية، وكذلك الكهرباء والمحركات التي كانت لبنة المجتمع الصناعي الحديث، كما ظهر أثر استثمار رؤوس الأموال في المجالات العلمية، مما نتج عنه ظهور جراحات القلب وزرع الأعضاء وتحسن جودة الحياة الصحية للأفراد، وحتى المجالات الفنية والإبداعية تأثرت وأصبحت الإنتاجات أكثر قيمة وتعقيدًا.

الأسواق الحرة

يقضي العديد من الكادحين عقودًا في تعلم الحقائق الاقتصادية المتعلقة بسلعة واحدة حتى يصلوا إلى مركز سلطة في ما يخصها، لذا فالإحاطة بالظروف الاقتصادية هي معرفة موزعة لدى العديد من الناس، إذًا ليس من المنطقي أن تتركز كل السلطة الاقتصادية في يد جهة واحدة، ففي الأنظمة الاقتصادية المعتمدة على حرية السوق تلعب الأسعار دور الإشارات والرسائل الدالة على حالة منتج معين، مما يوفر المعلومات اللازمة للأفراد، الذين ستؤثر قراراتهم بالتبعية في سعر المنتج، ولا يمكن لجهة مركزية واحدة أن تستوعب حجم هذه التغيرات، فحين حاول النظام الاشتراكي السيطرة على آليات الإنتاج وأصبح هو البائع والمشتري، اختفى دور السوق الحرة والقرارات الفردية، كما لم توجد آلية واضحة لتحديد الأسعار، مما أدى في النهاية إلى فشله.

وتُعرف السوق الرأسمالية الحرة بأنها المكان الذي يسمح بالتعامل المباشر بين البائع والمشتري وفقًا لشروطهما الخاصة دون وجود طرف ثالث، ولا توجد أي سوق بهذه الخصائص في أي دولة، إذ تخضع الأسواق والأسعار للبنك المركزي، الذي أدى تدخله إلى السماح بالعديد من المشاريع المبنية على سوء تقدير للأسعار، ومن ثم ضياع كميات كبيرة من رأس المال، وانسحاب المستثمرين، وبناء عليه ارتفعت معدلات البطالة.

في عصور النقد السليم كانت رؤوس الأموال تتدفق بين البلدان، وكانت التجارة سلسة لا تواجه أي عقبات، ما نتج عنه زيادة المشاريع الإنتاجية على المدى الطويل، ومع الاتجاه ناحية التأميم النقدي، أصبحت التجارة عملية صعبة ذات أهمية قومية وخاضعة للإقطاعيين أو الحكومات، واختفى ما عُرف بالتجارة الحرة، وحتى قيمة النقد التي مثلت وحدة الحساب للمتغيرات في السوق الحرة، أصبحت خاضعة للسياسات النقدية، والمالية والتجارية، وتقرر الحكومات وحدها كيفية سير هذه السياسات، ونتج عن تغيرات النقد غير المتوقعة العديد من الصعوبات التي مثلت عائقًا أمام المستثمرين، إذ إن تغير سعر صرف العملة غير المتوقع في إحدى الدول، يؤدى إلى تغير أسعار الإنتاج، ومن ثم خسارة فادحة لرؤوس الأموال.

مدارس الاقتصاد المختلفة

في نظر الاقتصاديين الحاليين فإن النقد هو ما تختاره الحكومة، ويحق لها طبع العملات وزيادة العرض النقدي، لتحقيق الأهداف التي تراها مناسبة، وتعتمد الحكومات مدرستين للفكر الاقتصادي وهما: المدرسة الكينزية، التي افترض مؤسسها أن أهم مقياس لحالة الاقتصاد هو مستوى الإنفاق الكلي، وأنه مع زيادة معدلات الإنفاق والاستهلاك تزيد المشاريع والأيدي العاملة، وعندما تقل معدلات الإنفاق الكلية، يتم تسريح العمالة وتحدث حالة الركود، ولم تستطع هذه المدرسة تفسير أسباب حالة الركود، ولكنها أوجدت ثلاث طرائق لتحفيز الإنفاق وهي: زيادة العرض النقدي، أو زيادة الإنفاق الحكومي، أو تخفيف الضرائب، ومن الجدير بالذكر أن الحكومات تتبع الطريقة الأولى فقط.

والمدرسة الاقتصادية الأخرى المعتمدة من الحكومات هي: المدرسة النقدية، التي أسست بواسطة ميلتون فريدمان | Milton Friedman، وتختلف النظرية النقدية مع الكينزية في افتراض أن الإنفاق يحفز الاقتصاد، إذ إن زيادة العرض النقدي ستسبب التضخم على المدى البعيد، وتؤيد خفض الضرائب وإتاحة الفرصة للأسواق الحرة، وحصيلة فرضيات المدرستين هو ما يُدرس في جامعات الاقتصاد، وعلى الجهة المقابلة توجد مدرسة أخرى للاقتصاد، تُعرف بالمدرسة النمساوية، وتعتمد على الأعمال الكلاسيكية للاقتصاديين الفرنسيين والعرب وحتى اليونان القديمة، كما تركز على فهم ظواهر الاقتصاد بطريقة سببية، ومحاولة التوصل إلى استنتاجات منطقية.

وتفترض هذه المدرسة أن غياب سيطرة الحكومات شرط أساسي للحفاظ على سلامة النقد، إذ تحط من قدر النقد وتبدأ بجمع الثروات عندما يبدأ المدخرون بالاستثمار، كما أكدت على أهمية النقد السليم، إذ أوضحت أنه في مجتمع يستخدمه، سيكون على الحكومات الحصول على موافقة أفراده لتمويل المشاريع المختلفة، وتُجمع تكاليف المشاريع من خلال بيع السندات الحكومية أو الضرائب، مما يمنح السكان مقياسًا حقيقيًّا للفوائد العائدة من المشاريع وتكلفتها، ومن ثم لن تواجه الحكومات التي تسعى إلى تمويل مشاريع البناء التحتية أي مشكلة في جمع التكاليف، في حين سيتم قطع يد الحكومات التي تستغل الضرائب لجمع الثروات وتمويل نمط الحياة الفخم للحكام.

البتكوين عملة المستقبل

تنقسم وسائل الدفع المتعارف عليها إلى طريقتين أساسيتين وهما: المدفوعات النقدية، وتتميز هذه الطريقة بسرعتها وكونها نهائية، كما لا تتطلب أي ثقة بين طرفي التبادل، ولا يوجد فيها طرف ثالث، ولكنها غير عملية حين تتم عملية التبادل بين حدود الدول، وتحتاج إلى وجود الطرفين، أما الطريقة الثانية فهي: المدفوعات عبر وسيط، وتشمل بطاقات الائتمان والحوالات المصرفية، وطرائق الدفع الرقمية مثل paypal، وتتميز هذه الطريقة بكونها عملية وسهلة، ولا تحتاج إلى وجود الطرفين في المكان نفسه، ولكنها تعتمد على طرف ثالث وهو الوسيط، لذا يتمثل عيبها الأساسي في افتقارها إلى الثقة، إذ لا يمكنك ضمان عدم تعرض الطرف الثالث للاختراق أو السرقة.

ونشأت طريقة أخرى للدفع، جمعت بين مميزات الطريقتين، وهي المدفوعات باستخدام البتكوين، إذ وفرت لمستخدميها ميزة المدفوعات النقدية من دون وجود وسيط أو طرف ثالث، بالإضافة إلى تضمنها لسياسة صارمة، تمنع التضخم في كميتها، كما تضمن عدم تدخل الحكومات أو السياسات الاقتصادية، كما أنها غير خاضعة لمجلس إدارة، والتغيرات المجراة على النظام والعملة يجب أن تتم الموافقة عليها من كل المستخدمين، مما يشبه طريقة عمل السوق الحرة.

كما يتميز نظام البتكوين بكون عدد العملات ثابتًا مهما زاد الطلب عليها، مما يؤدي إلى انقسام العملة الواحدة ملايين المرات مع ثبات القيمة الأصلية، مما يؤهله ليكون مخزنًا للقيمة، وقدرته كذلك على إجراء التحويلات أكبر مما تحتاج إليه البنوك المركزية، كما يمكن أن يخدم البتكوين كاحتياطي للنقد لدى البنوك التي تواجه قيودًا دولية على عملياتها المصرفية، ومع كل هذه المميزات قد يكون منطقيًّا محاولات استخدامه كوحدة للحساب تعتمد عليها المعاملات التجارية والأسواق، ولكن هذا غير ممكن حاليًّا بسبب قلة عدد مستخدميه مقارنة بباقي العملات، وتسود عدة اعتقادات خاطئة بشأن التحويلات القائمة على البتكوين، منها: أنه يُعتبر العملة المستخدمة من الإرهابيين، إذ لا يمكن تتبع أصحاب الحسابات، وهذا اعتقاد خاطئ، فمن الممكن ربط الحسابات بالهويات الواقعية للأفراد، كما أن حذف الحسابات لن يؤدي إلى حذف التحويلات ومسارها من السجل، مما يمكن من كشف الخلايا الإرهابية.

ما زالت العملات الرقمية تواجه العديد من التحديات التقنية، وتتعرض كذلك للعديد من الادعاءات والهجوم، وربما مع التقدم التقني وتبني المزيد من الأشخاص لثقافة العملات الرقمية، قد يظهر نوع من النقد السليم، مما سيعيد خلق الأسواق الحرة من جديد، ويُعيد للأفراد سيطرتهم على مدخراتهم واستثماراتهم.

 

Leave A Reply

Your email address will not be published.