مراجعة كتاب المخبر الاقتصادي

لا داعي لأن ترتدي نظارة شمسية سوداء سميكة، معطف جلدي مريب، وتحمل صحيفة لا أحد يشتريها عادة وتجلس في وسط الحديقة متنكراً بأنك تطالع الأخبار، المخبر الاقتصادي يتفحص العالم من حولنا بمكبرة المحقق وعقل الخبير وشغف العالم.

يمضي معنا تيم هارفورد بكتابه ليكشف لك عن الإجابات التي طالما بحثت عنها، إجابات لأسئلة مثل لماذا الأغنياء أغنياء والفقراء فقراء؟ لماذا لا يمكنك شراء سيارة مستعملة بحالة جيدة؟ وغيرها الكثير.

الكتاب ليس بالطويل لكنه مكثف الأفكار، من خلال عشرة فصول وحوالي 250 صفحة فقط يسرد لك خبايا اقتصادية كثيرة لن تعرفها لو كنت مستهلك عادي. يبدأ من ما نسميه بالاقتصاد الجزئي أي يناقش على مستوى كوب القهوة في ستاربكس واختلاف سعره عن كوب القهوة بمقهى في الشارع الخلفي، وحتى يناقش الفروقات بين أنواع القهوة وربحيتها.

إن كوب الكابتشينو الذي شربته يوماً ما مسألة مثيرة ومحيرة لخبير الاقتصاد، هناك من زرع حبوب البن وقطفها وحمصها وخلطها بتوابل وحبوب اخرى، وربى الأبقار وحلبها وسبك الصلب وشكّل اللدائن وجمعها ليصنع آلة تحضير القهوة، وهناك من شكّل الخزف ليصنع كوباً جميلاً. كوب الكابتشينو يحوي نظام معقد بشكل مذهل لايمكن لفرد لوحده أن يقوم بكل ما يحتاجه اعداد كوب الكابتشينو.

هذا الكتاب يساعدك لترى العالم كما يراه الخبير الاقتصادي، لن تجد فيه شرحاً عن أسعار الفائدة أو تقلبات النشاط الاقتصادي، لكنك ستعرف لغز السيارات المستعملة وقضايا على مستوى أكبر مثل كيف تنتشل الصين كل شهر مليون شخص من الفقر ولماذا الصين وليس الهند من حققت هذه الطفرة الاقتصادية وكيف كانت بداياتها الفاشلة التي قتلت الملايين بالمجاعة.

الفصلين الأول والثاني تحديداً كانا الأغنى بالمادة العلمية المثيرة للاهتمام والألغاز والأسرار التي يكشفها هارفورد بمختلف الصناعات كالقهوة مع ستاربكس وكوستا، الملابس، الطعام، المصارف وغيرها. هناك أسرار مثل الندرة واستراتيجية السعر المستهدف تعمل ضدك كزبون مستهلك، يعلمك الكتاب كيف تتعرف على تلك الأسرار وكيف تستخدمها لصالحك لتوفر المال.

أما الفصل الثالث ركز على فلسفة الاسواق الحرة وتحديداً عالم الصدق حيث يمنع الكذب والخداع وكيف سيكون الحال لو كان الجميع صادقاً. وطرح أسئلة مثيرة للاهتمام مثل ماذا لو كانت الصناعات الأخرى مثالية في تنافسيتها. فالصقيع الذي قد يحدث في البرازيل سيضر بمحصول البن ليخفض المعروض العالمي منه بالتالي تزيد الأسعار التي يجب على شركات التحميص دفعها إلى درجة تثبط مسألة شرب القهوة لتتوازن مع هذا الانخفاض. وهذا كله سيؤدي لارتفاع بسيط في الطلب على المنتجات البديلة كالشاي ما يؤدي لرفع سعره والعرض العالمي منه، في حين سينخفض الطلب قليلاً على المنتجات التكميلية مثل كريمة القهوة. وبالنتيجة سيتمتع مزارعو البن في كينيا بالأرباح الضخمة لأنهم لم يتضرروا من الصقيع ما يدفعم لتطوير منازلهم كأن يركبوا لها سقف من الألومنيوم بالتالي يرتفع سعر الألومنيوم وهذا يؤثر على الحسابات البنكية والخزائن الحديدية سيزيد الطلب عليها لتخزين المال. أما في البرازيل فالوضع معاكس لأن المزارعين البائسين فسدت محاصيلهم.

الفصل الرابع يتحدث عن مسألة الزحام المروري عبر المدن وكيف يؤثر قائدو السيارات على باقي الناس ويسهب في شرح استخدام الضرائب للحد من أضرار قيادة السيارات والتلوث.

أجمل شيئ في هذا الكتاب انه من النوع المفضل لدي، أي تلك الكتب التي تناقش قضايا علمية بطريقة طرح الأمثلة والبناء عليها، وهو كما تلاحظون اسلوبي في هذه المدونة عموماً. حيث أن المواضيع النظرية لن ترسخ في عقل القارئ ولن تشده كما لو ربطت معها مثال تطبيقي. والكتاب مليئ جداً بالأمثلة من هذا النوع وتكاد لاتوجد فكرة تم شرحها نظرياً وهنا نجد الفارق الرئيسي بين المؤلف الذي يستند على عقلية أكاديمية والمؤلف الذي يعتمد على الواقع في طرح القضايا.

الفصول التالية تناقش العديد من القضايا أيضاً مثل الأسهم والبورصة وصناديق الاستثمار والطفرات المالية، نظرية الألعاب والمزادات ليصل إلى الفصول الثلاثة الأخيرة المرتبطة ببعضها والتي تناقش وضع الدول الفقيرة، لماذا هي كذلك؟ ولماذا لم تتحول للغنى؟ ولماذا بعضها تحسن كالصين وبعضها استمر فاشلاً كالهند والكاميرون.

الفصل الثامن بالكامل يتحدث عن تجربة الكاميرون كواحدة من أفقر الدول وأكثرها فساداً في العالم، وعلاقة ذلك بالسلطة الحاكمة ورغبتها بالاستمرار على هذا النحو. لو كنت رئيساً فاسداً لبلد ما، هل من مصلحتك أن تنهب كل شيء وتبقي البلد فقيراً؟ أم تساعده على التحسن البسيط لتستمر بالنهب طوال حياتك؟ ما يحدث في الكاميرون هو الخيار الثاني، فالسلطة هناك لاتريد تحسين البلاد إلا بالمقدار الذي يدفع بعض المال إلى جيوب الناس ليدفعوها للحاكم.

الفصل التاسع يتحدث عن العولمة والتجارة الخارجية وتبادل السلع وبالتركيز على التجربة الصينية والأمريكية. ويعود بالعولمة إلى الزمن البعيد وكيف ازدهرت دول بسبب تلك التجارة وكيف ألغيت القيود اليوم وأصبحت التجارة الحرة سبب ثراء الدول بالمجمل على الرغم من سلبياتها.

يختم الكتاب بالإجابة عن سؤال كيف أصبحت الصين غنية، حسناً هي ليست غنية بشكل فاحش اليوم، لايزال الفقر ينخر في عظام الصين، لكن دولة بهذا الحجم والتعداد السكاني، ألم يكن من الأجدى أن تهدف للاكتفاء الذاتي بدلاً من غزو العالم تصديرياً؟ يبحث الكاتب هنا بدءاً من سياسات اقتصادية فاشلة تعود إلى حكم الماو ومروراً بتجارب أحدث حتى أصبح للصين رؤيتها الخاصة للتنمية والتصدير والتي لايمكن ولايجب نقل تلك التجربة حرفياً وتطبيقها على دول أخرى لأنها مفصلة لتناسب الصين.

ركز الزعيم ماو في استراتيجية التنمية على دعامتين: الاستثمار العملاق في الصناعات الثقيلة، وتطبيق تقنيات زراعية خاصة لضمان إطعام سكان الصين. تلك التنمية سميت قفزة عظيمة للأمام كانت أكبر فشل اقتصادي عرفه التاريخ. كان ماو يطلب أشياء غريبة مثل صهر المعالق لصنع المعالق، وقتل الطيور التي تأكل الحبوب فانفجر طوفان من الآفات الحشرية، ونثر البذور بطريقة قريبة جداً من بعضها البعض وعمق أكبر لكن ما حدث أن الأزر لم يتمكن من النمو. لكن المسؤولين الفاسدين حينها في الحزب الشيوعي كانوا يرفعون تقارير وهمية للزعيم يخبرونه أن الوضع جيد كل ذلك أدى إلى فشل ومجاعة أودت بحياة الملايين – يرجح 60 مليون – لدرجة أن بعض الأحياء أكلو جثث الموتى من عائلاتهم، أما المسؤولين فقد ألقوا اللوم على سوء الأحوال الجوية !.

من هذه الحال قبل 50 سنة، انتقلت الصين إلى الطفرة التجارية والعمرانية التي نعرفها اليوم، فلا يوجد بيت في العالم إلا وفيه منتج واحد على الأقل صنع في الصين بدءاً من حاسوبك أو هاتفك الذي تقرأ عبره هذه المقالة.

في الحقيقة الكتاب غني جداً بالأفكار والأمثلة والمواضيع التي ناقشها، ولن تكفي أية مراجعة لتسليط الضوء عليها جميعاً. أدع لك مهمة الإطلاع عليها عبر قرائته فهو كتاب ينصح به للجميع حتى لغير المختصين لأنه مكتوب بلغة بسيطة ومترجم بشكل جيد جداً للعربية.

Comments are closed.

%d