التضخم الجامح: تجربة أسوء تسعة دول – وفرص سوريا إلى أين؟

ترجمة الدكتور عبد الرحمن الجاموس

ظهرت حلقة التضخم الجامح عدة مرات خلال القرن الماضي – 55 مرة على وجه الدقة – كما جربت دول العالم العملات الورقية المدعومة التي كان فيها ضمان كامل من الحكومات التي تصدر عنها. وفي كثير من الأحيان، كان هذا الموضوع من المواضيع المتكررة بين الدول النامية مثل تلك الموجودة في أمريكا اللاتينية وخصوصا خلال أزمة الديون التي ضربت المنطقة اللاتينية في فترة الثمانينات من القرن المنصرم.

جدير بالذكر أن بعض أكبر الاقتصادات العالم اليوم قد عانت من نوبات التضخم الجامح المدمرة مثل الصين وألمانيا وفرنسا.

وتشير الوقائع التاريخية عن حالات من التضخم الجامح الكبرى تعود في اغلبها الى الحرب التي تقضي على رأس المال في الاقتصاد، وكما تؤدي الى انهيار وانخفاض شديد في معدلات الانتاج وبشكل كبير – ولكن غالبا ما تلعب السياسات النقدية والمالية التي تصاغ بغير محلها دورا واضحا من حالة التضخم الجامح.

الاقتصاديان Steve Hanke وNicholas Krus جمعا بيانات عن جميع حالات التضخم الجامح ال 56 ضمن دراسة في عام 2012، ونلخص هنا تسعة حالات تضخم جامح تعد من أسوء حلقاته.

• أولاً: المجر – أغسطس 1945 – يوليو 1946
– معدل التضخم اليومي : 207 في المئة
– تضاعف الأسعار كل : 15 ساعة
• القصة:

المجر دمرت اقتصاديا بفعل الحرب العالمية الثانية، وطبقا لوضعها المؤسف تشير التقديرات الى أنه تم تدمير 40 في المئة من رأس المال المجري في الصراع .

قبل ذلك، تبنت المجر سياسات تكثيف الإنتاج لدعم المجهود الحربي الألماني عبر قروض، ولكن ألمانيا لم تدفع قيمة ثمن البضائع .

صدر أمر بدفع تعويضات ضخمة للسوفييت عندما وقعت هنغاريا اتفاق سلام مع الحلفاء في عام 1945، والتي مثل 25-50 في المئة من ميزانية المجر خلال حلقته التضخم الجامح. وفي الوقت نفسه، كانت السياسة النقدية للبلاد أساسا مختارة من قبل لجنة رقابة الحلفاء.

في غضون ذلك حذر محافظو البنوك المركزية الهنغارية من عملية طبع النقود لتسديد الفواتير حيث أن الأمور لن تنتهي بشكل جيد اذا استمر ذلك، ولكن “السوفييت، الذين كانوا يهيمنون على اللجنة، اعطوا هذه التحذيرات أذنا صماء، مما أدى بالبعض إلى استنتاج أن التضخم صمم لتحقيق هدف سياسي، الا وهو “تدمير الطبقة الوسطى “.

• ثانياً: زيمبابوي- مارس 2007 – نوفمبر 2008
– معدل التضخم اليومي: 98 في المئة
– تضاعف الأسعار كل: 25 ساعة
• القصة:

ظهر التضخم الجامح في زيمبابوي قبل فترة طويلة، وطحن الانتاج وادى الى انخفاض كبير فيه، الذي تلى الإصلاح الزراعي لروبرت موجابي 2000-2001، حيث قام بمصادرة أراضي شاسعة من المزارعين البيض واعاد توزيعها على السكان الأغلبية من السود. أدى ذلك إلى انهيار 50 في المئة في الناتج على مدى السنوات التسع اللاحقة.

أدت الإصلاحات الاشتراكية والاندماج المكلف في الحرب الأهلية الكونغوية إلى عجز في الميزانية الحكومية بشكل هائل. في نفس الوقت، كان سكان زيمبابوي بانخفاض حيث فروا من البلاد. مما ادى وبسبب هذين العاملين المتعارضين الى زيادة الإنفاق الحكومي وخفض الضرائب بشكل أدى الى دفع الحكومة إلى اللجوء إلى تسييل العجز المالي فيها.

– تعليق : التسييل Monetization: عادة ما يشير إلى السك من العملة أو طباعة الأوراق النقدية من قبل البنوك المركزية أو تحويل المعادن الثمينة أو بيع اذونات الخزانة.

• ثالثاً: يوغوسلافيا / جمهورية صربسكا – أبريل 1992 – يناير 1994
– معدل التضخم اليومي : 65 في المئة
– تضاعف الأسعار كل : 34 ساعة
• القصة:

أدى انهيار الاتحاد السوفياتي إلى انخفاض الدور الدولي ليوغوسلافيا التي كانت سابقا لاعب في الجيوسياسية الرئيسية التي تربط الشرق بالغرب – وجاء الحزب الشيوعي الحاكم في نهاية المطاف تحت نفس الضغط كما فعل السوفيات. أدى هذا إلى تفكك يوغوسلافيا إلى عدة دول على أساس عرقي والحروب اللاحقة على مدى السنوات التالية كما فرزت كيانات سياسية اخذت حديثا استقلالها.

وفق هذه العملية، انهارت التجارة بين مناطق يوغوسلافيا السابقة، وتلاه انهيار في الإنتاج الصناعي . في الوقت نفسه ، وضع حظرا دوليا على الصادرات اليوغسلافية، التي سحقت الانتاج. اشار Petrovic, Bogetic, و Vujosevic في 1998 الى أن الجمهورية الاتحادية التي تشكلت حديثا من يوغوسلافيا وعلى النقيض من الدول الأخرى التي انفصلت مثل صربيا وكرواتيا احتفظت بالكثير من البيروقراطية المتضخمة التي كانت قائمة قبل الانقسام، وساهمت في عجز الميزانية الفدرالية. في محاولة لسد هذا العجز وغيره، خسر البنك المركزي السيطرة على خلق النقود وتسبب بذلك بمزيد من التضخم .

• رابعاً: ألمانيا – أغسطس 1922 – ديسمبر 1923
– معدل التضخم اليومي : 21٪
– تضاعف الأسعار كل : 3 أيام، 17 ساعات
• القصة:

شهدت ألمانيا تضخما كبيرا خلال وقت مبكر من عشرينيات القرن الماضي عقب هزيمتها في الحرب العالمية الاولى قبل بضعة سنوات. ونتيجة للحرب، كان مطلوبا من ألمانيا دفع تعويضات كبيرة للمنتصرين للتعويض عن التكاليف التي تكبدها الجانب المنتصر، ومع ذلك، لم يسمح لألمانيا دفع التعويضات بعملتها في ذلك الوقت وبماركات ورقية، والتي ضعفت بالفعل بشكل كبير خلال الحرب على اعتبار أنه في الحقيقة ألمانيا كانت تمول المجهود الحربي لها من خلال الأموال المقترضة .

اضطرت ألمانيا من أجل دفع التعويضات بعملة أخرى غير Papiermark الماركات الورقية لبيع كميات كبيرة من الماركات في مقابل العملات الأجنبية.

عندما جاء وقت الدفع في صيف عام 1921 أدت سياسة بيع الماركات الالمانية مقابل شراء العملات الأجنبية بأي ثمن إلى تضخم جامح أدى الى تخفيض قيمة المارك الالماني بشدة.

• خامساً: اليونان – مايو 1941 – ديسمبر 1945
– معدل التضخم اليومي : 18٪
– تضاعف الأسعار كل : 4 أيام ، 6 ساعات
• القصة:

تحول حال توازن ميزانية اليونان من فائض 271 مليون بعملة الدراخما في عام 1939 إلى عجز بقيمة 790 مليون بالدراخما في عام 1940 ويرجع ذلك إلى بداية الحرب العالمية الثانية (والانهيار الدراماتيكي للتجارة الخارجية).

هذا بالفعل مهد الطريق للوصول الى وضع مالي متدهور بحلول الوقت الذي تم غزو اليونان من قبل دول المحور في نهاية عام 1940.

علاوة على ذلك، تم تخفيض الدخل القومي في اليونان من 67.4 مليار دراخما في 1938 الى 20 مليار دراخما قبل 1942، كما انخفضت عائدات الضرائب، ولجأت اليونان إلى تسييل في البنك المركزي لدفع النفقات المشار إليها، وتمويل بقية العجز.

• سادساً: الصين- أكتوبر 1947 – مايو 1949
– معدل التضخم اليومي: 14٪
– تضاعف الأسعار كل: 5 أيام، 8 ساعات
• القصة:

بعد الحرب العالمية الثانية، تم تقسيم الصين بفعل الحرب الأهلية، وحارب القوميون والشيوعيون من أجل السيطرة على البلاد، ودخلت العملات المتنافسة في العملية وترك النظام النقدي الصيني مشتت بين عشر وسائل دفع وصرف رئيسية في عام 1948.

يشير Campbell and Tullock في 1954 الة أن العملات أخذت مركز الصدارة في بعض الأحيان أثناء النزاع – والحكومات الثلاث (بما في ذلك الدولة المحتلة اليابانية) شاركت في “حرب النقدية” لإضعاف عملات المعارضين بطرق مختلفة.

ولتمويل النزاع، لجأت إلى القوميين لسد عجز الميزانية الضخمة، وهو ما بدا في نهاية المطاف عبارة عن تغطية عن طريق طباعة النقود، مما ادى الى تضخم منفلت (هذا كان سبقه التخلي عن معيار الفضة في الصين في عام 1935)، كما دفعوا البنك المركزي التايواني لمشاركة في نظام التسييل، وهذا ما تسبب بمزيد من التضخم في تايوان أيضا.

• سابعاً: بيرو- يوليو 1990 – أغسطس 1990
– معدل التضخم اليومي: 5 في المئة
– تضاعف الأسعار كل: 13 يوما، 2 ساعات
• القصة:

خاضت البيرو معركة طويلة مع التضخم في النصف الأخير من القرن 20 وفي النصف الأول من الثمانينات منه، وكان Fernando Belaunde Terry رئيس البيرو،، حيث واجت البيرو سياسات تقشف فرضتها الجهات المقرضة صندوق النقد الدولي في أعقاب الأزمة المالية في أمريكا اللاتينية.

يشير الخبير الاقتصادي Thayer Watkins الى ان إدارة الرئيس Terry تظاهرت بأنها تنفذ وصفة الإصلاحات التي أوصى بها صندوق النقد الدولي، بينما في الحقيقة لم تكن كذلك، حيث كان الاقتصاد يعاني ركود تضخمي في ذلك الوقت، وكان يلقى باللوم على سياسات التقشف من قبل الناخبين التي اوصى بها صندوق النقد الدولي، على الرغم من تلك السياسات لم تكن في الواقع يجري اتباعها.

هذا أدى إلى انتخاب Alan Garcia في عام 1985 رئيسا للبلاد، سن Garcia إصلاحات اقتصادية شعبية لم تؤد إلا إلى إضعاف الاقتصاد وسقوط البيرو من أسواق القروض الدولية، حيث واجهت صعوبة في الحصول على القروض مما ادى الى تدهور الأوضاع الاقتصادية، وادى الى ارتفاع معدلات التضخم بشكل مستدام متحولا الى تضخم جامح في البيرو.

• ثامناً: فرنسا – مايو 1795 – نوفمبر 1796
– معدل التضخم اليومي : 5 في المئة
– تضاعف الأسعار كل : 15 يوما، 2 ساعات
• القصة :

جاءت الثورة الفرنسية (1789-1799) بعد الفترة التي كانت فرنسا تعاني من ديون كبيرة من اجل خوض الحروب، بما في ذلك حرب الاستقلال الأمريكية عن بريطانيا العظمى، وكانت واحدة من السياسات الاقتصادية الكبرى للثورة الفرنسية تأميم الأراضي المملوكة سابقا للكنيسة الكاثوليكية، واصبح للكنيسة نفوذ سياسي ضئيل نسبيا في النظام الجديد بعد أن تم مصادرة الاراضي التي تمتلكها.

ثم أصدرت الجمعية الوطنية في فرنسا نقود ورقية للجمهور بعد مصادرة ممتلكات الكنيسة – هي عبارة عن صكوك أساسا مدعومة بقيمة الأرض – التي كان من المفترض أن تكون قابلة للاسترداد في موعد لاحق، ومع ذلك أن الحكومة توقفت عن الإصدار لهذه الصكوك استمر انخفاضها مؤديا الى تضخم جامح ومنفلت.

• تاسعاً: نيكاراغوا – يونيو 1986 – مارس 1991
– معدل التضخم اليومي : 4٪
– تضاعفت أسعار كل : 16 يوما ، 10 ساعة
• القصة:

في عام 1979، تعرضت نيكاراغوا لثورة جاءات بالساندينيين الشيوعيين للسلطة، بعد فترة الركود العالمي والأزمة المالية في معظم أنحاء أمريكا اللاتينية اثارها مستويات الديون القياسية وعدم القدرة على دفع تكلفة تلك الديون .

دمر الاقتصاد النيكاراغوياني خلال الثورة – وتقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 34 في المائة بشكل تراكمي خلال 1978-1979، وعندما تولى السلطة الساندينيين تم تأميم أجزاء كبيرة من الاقتصاد، مساهمة بذلك حالة من الاضطراب الاقتصادي وعرقلة للانتعاش اقتصادي.

في مواجهة ذلك، تحولت الحكومة نيكاراغوا الى سياسة مالية توسعية والاقتراض من الخارج لتحفيز الطلب المحلي، وتسارع الإنفاق في النصف الأخير من العقد لتمويل الحرب مع حركة الكونتراس المعارضة ، جدير ذكره أن الضوابط القوية حول نسب رأس المال ومعدل الصرف الثابت أبقى التضخم بمدلات مقبولة بداية، بينما في 1985 ابتعد الإصلاح الاقتصادي عن مثل هذه السياسات واطلق العنان لتضخم كبير في اقتصاد نيكاراغوا .

•الحالة السورية:

•يشير بعض الخبراء على عكس ما يشاع بان التضخم مقارنة بانخفاض الليرة السورية بين 200% وغيرها في توصيف خاطئ لانخفاض قيمة الليرة، وتشير التقديرات العلمية الى أنها انخفضت ليست بتلك القيم، المقاربة العلمية تقول أن قيمة الليرة السورية الان ومقارنتها بالليرة السورية قبل 3 سنوات مقارنة بالدولار تتم على النحو التالي:

•بلغ سعر الدولار قبالة الليرة في بداية الأزمة 47.5 ليرة وبينما بلغت حقوق السحب الخاصة : 72.5 ليرة .. والآن قيمة الدولار تتراواح وسطيا بحدود 148.62 ليرة وبقسمة 47.5 على 148.62 يكون الناتج 0.3192 = 31.192% أي أن الليرة تساوي 0.3192 من الليرة السابقة وبذلك تكون خسرت 68% من قيمتها على عكس ما يشاع وبارقام فلكية.

الحالة السورية مقارنة بالحالة الالمانية:

يشير الخبير الاقتصادي الدكتور نادر الغنيمي في دراسة توصيفية يمكن مقاربتها والحالة السورية لتجربة المانيا ففي عام 1923 قامت فرنسا وبلجيكا وإيطاليا باحتلال وادى الرور الألماني الصناعي وفرضت حصاراً اقتصادياً على ألمانيا لإلزامها بدفع تعويضات الحرب العالمية الأولى التي بلغت 123 بليون مارك ألماني ذهبي.

وقام العمال بالإضراب لسوء الأحوال فاضطرت الحكومة الألمانية إلى طبع الأموال دون رصيد لملاقاة حاجاتها بشكل خيالي فارتفع التضخم إلى حد فلكي بلغ في آخر العام 4 ترليون مارك للدولار.!! وكان العمال يأخذون أجرهم مرتين يومياً ويعطوا بعد الدفعة الأولى فرصة لشراء السلع قبل أن ترتفع الأسعار.

لقد كان في عام 1920 ثمن رغيف الخبز1.2 ماركاً وفي بداية عام 1923 أصبح سعر رغيف الخبز 700 ماركاً وفي بداية نوفمبر 1923 أصبح ثمن الرغيف 3 بليون مارك وفي 15 نوفمبر بلغ سعر الرغيف 80 بليون مارك!!وكانت النسوة التي تملك نقوداً ذات فئات صغيرة تقوم بالتدفئة بها فتدوم النار أكثر من دوام الخشب الذي يمكن شراؤه بها فماذا تفعل فئة الألف المارك وكانت قد صدرت فئة المئة تريليون مارك!! لا عجب أن نجد شركات بيع الذهب تعتمد على تذكير الأمريكيين بهذا الحدث لحثهم على شراء الذهب حالياً.

وفي عام 1924 صدر المارك الجديد الذي يساوي تريليون مارك قديم واستقرت الأسعار بعد أن أفقرت كافة الألمان. ولقد حصل شيئٌ مشابهُ لهنغاريا 1945-1946 وليوغسلافيا عام 1993.

هذه المصيبة جعلت في ذاكرة الألمان كرهاً شديداً للتضخم وكانت السبب في تشددهم بعد النهوض من الحرب الثانية في معايير مكافحة التضخم وكان المارك الألماني مثالاً للعملات المستقرة فضلاً على أن ألمانيا تمتلك ثاني أكبر احتياطي ذهب في العالم 3417.4 طن ولقد قاوم البنك المركزي الألماني التيار الذي تزعمه البنك المركزي البريطاني الذي باع الذهب بإفراط

• ربما نحن في وضع أفضل فيما لو توقفت هذه الحرب المجنونة، واعدنا لملمة الجراح وانطلقنا من جديد.

Comments are closed.

%d