إدارة الأعمال على الطريقة الألمانية

 

على السطح، تبدو أمريكا وألمانيا واليابان أمما متشابهة، والأمم ليست هي التي تصنع الازدهار، بل الشعوب ورجال الأعمال..ومن هنا فإن التشابه مظهري بحت، والنمط الأمريكي في الرأسمالية هو مجرد واحد من الأنماط، وبرغم أن المراقبين في أمريكا وأوروبا قد بهرهم ضوء الشمس المشرقة في اليابان، وخطف أبصارهم، فإن تراث اليابان وتقاليدها يجعلانها غير قادرة على التكيف مع الممارسات الغربية في دنيا الأعمال.

أما النمط الألماني فمتميز جدا هناك “إجماع شامل يأتي من خلال مشاركة العمال، والتفاوض الجماعي والضمان الاجتماعي” فيما يقول أحد الخبراء، وهكذا فإنه يمكننا القول بأن هناك ثلاثة أنماط للرأسمالية: الياباني، والأمريكي، ثم الألماني الأوروبي. هذا الأخير يتضح فيه بصفة خاصة الحس بالاهتمام بالعاملين من جانب المجتمع ككل، والقيمة العالية والمكانة الرفيعة لفرص العمل وتوفير الوظائف، هذا هو الجانب الإنساني الذي كثيرا ما تغفله الرأسمالية الأمريكية.

العاشر من مايو ١٩٤٥ – اليوم التالي للتوقيع النهائي على اتفاقية الهدنة مع الحلفاء..يسميه الألمان: ساعة الصفر، بداية كل شيء من جديد، البناء فوق الأنقاض. بكل تأكيد، كان الفضل في النجاح الذي تحقق يرجع إلى الإصلاحات التي أدخلها وزير الاقتصاد (لودفيج ايرهارد) الإصلاح النقدي، ثم تحرير الاقتصاد، ولكن الذي لا يقل أهمية عن هذين هو أن الألمان لم يفقدوا أبدا إحساسهم القوي بالمسئولية الاجتماعية.

لكي نستطيع أن نفهم ما يجري في دنيا الأعمال الألمانية اليوم، لا بد لنا من العودة إلى الحقبة التي اشها الألمان بعد الحرب مباشرة، وتأمل أنماط “رجال الساعة الأولى”، طليعة رجال الأعمال الذين صعدوا من خلال التراب والأنقاض، أمثال “فيرنر أوتو” الذي أنشأ سنة ١٩٤٩ مؤسسة “أوتو فيرساند” التي تقف اليوم على قمة البيوت العالمية التي تعمل بالكتالوج وتوصيل الطلبات بالبريد، وتفوق في ذلك نظيرتها الأمريكية “سيرز” “فيرنر أوتو”. اجتاز الثمانين وما زال حتى الكن في قمة النشاط.

يقول “أوتو” معلقا على أسلوب الكتالوج والتوزيع البريدي: في متجر الأحذية، الزوج الذي لا يعجب الزبون يعاد ببساطة إلى الرف، ولكن في حالة توصيل الطلبات بالبريد لابد من الحرص على ألا توجد إلا الأصناف التي سوف تباع، لأن إرجاعها معناه تحمل تكلفة الشحن مرة أخرى. إن النجاح – كما يراه – لا يتوقف على معالم المجتمع ولا البرامج الحكومية ولا الأساليب الإدارية وعلى على
التمويل المتطور..إنه يأتي من صنع وتسويق المنتجات التي يريد الناس شراءها والتي يوجد لديهم الحس بوجودها عندما تتوفر لديك.

معالم الإدارة الألمانية


كل شيء في دنيا الأعمال الألمانية – من أسلوب الألمان في ممارسة الإدارة داخل الشركة إلى البيئة التي تعيش هذه الشركات بداخلها – كل شيء يتسم ببنية صارمة محكمة تسبب الإحباط لمن لا ينتمون لهذه البيئة. لعلها نزعة متأصلة لدى الألمان، نزعة إلى النظام المحكم، ولعلها تاريخ
هذا البلد، بما يمتلئ به من اضطرابات وتقلبات توجد إحساسا بالذعر من المجازفة. يتمثل ذلك في المؤسسات التي تمثل النمط السائد: هوكست،
باير، حيث البنية التنظيمية لها خواص وظيفية وعلمية، وحيث ينتظر المرؤوسون من رؤسائهم الوضوح القاطع بشأن ما يريدونه. المرح والفكاهة أمور نادرة، والقدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة هي أيضا كذلك، والألمان يجاهدون ليغيروا كل شيء ويتغلبوا على العقبات من أجل التوافق مع الخطة الموضوعة.

الألقاب والدرجات المهنية مقدسة، دكتور شميث سيظل دكتور شميث، على بطاقته وعلى مكتبه، وإذا جلست عشر سنوات على مكتب مواجه له فإنه يظل دكتور شميث. الوقت يدار كما لو كان سلعة ثمينة. القوانين صارمة هي أيضا، القانون التجاري والمدني، قوانين الشركات وقوانين العمل، فإذا لم يجد الألمان نصا قانونيا واضحا فإنهم يترددون ثم يقبعون في أماكنهم. وهكذا فإن ابتلاع الشركات أو الانقضاض عليها أمر غير معروف في ألمانيا. وقد بدأ الأمريكان يتعلمون هذا من أوروبا.

من أمثلة ذلك القوانين التنظيمية التجارية التي تحدد حقوق المشترين والبائعين والتي صدرت في بعض الولايات، ولكن الطريق ما يزال بعيدا أمامهم لكي يتساووا مع نظرائهم من الأوروبيين. وتتسم الرأسمالية الألمانية بدرجة من الانضباط هي أيضا يمكن إرجاعها إلى الخوف من الاضطراب، عندما
يضطرب السوق في أمريكا فإنه يترك لشأنه ليتحكم في كل شيء، شركات تصعد وأخرى تهبط ولكن السوق تظل باقية.

أما الألمان فيسحبون أنصبتهم من السوق ويعملون إلى حد ما على الإبقاء على الوضع القائم. للبنوك نفوذ وسيطرة لا مثيل لهما. أما أنصبة الشركات في الشركات الأخرى فهي في الحد الأدنى، أي مجرد ما يكفي للاحتفاظ بشيء من النفوذ وليس للإحساس بالخطر، والقانون لا يسمح لشركات بأن تسترد الأسهم التي تطرحها إلا في حدود ضيقة.

ويعتز الألمان كثيرا بالمعارض التجارية، معرض الخريف في فرانكفورت يحوي كل أنواع السلع الاستهلاكية، وعمره ٧٥٠ سنة وبذلك فهو أقدم معرض تجاري في العالم. وتتمتع الجمعيات الصناعية والتجارية بأهمية ونفوذ لا مثيل لهما في الولايات المتحدة أو غيرها من الدول، وهي تشارك النقابات في هذه السطوة، ومن أمثلتها مواعيد إغلاق المحال التجارية والتي لا يجرؤ أحد على مخالفتها.

والألمان كمستهلكين، يصرون على أعلى درجات الجودة، وكمنتجين، يعدون أنفسهم وينظمون صناعاتهم بحيث تفي بهذا المطلب. أدنى خدش في جسم البورش أو الفولكس فاجن معناه رحلة إلى ورشة الإصلاح. والنظام المحاسبي الألماني يمكن من سرعة الإهلاك الدفتري للمعدات وبالتالي
من التجديد الدائم وإحلال أحدث معدات الإنتاج محل ما يتوفر منها.

ثم هناك وجه آخر لهذه المسألة.. برغم ما تتميز به الصناعة والأعمال في ألمانيا من دقة التنظيم وصرامته، فإن شيئا غامضا يستعصي على الفهم، يحيط بالشركات والمؤسسات، فهي تبنى بحيث تشجع تكوين رأس المال بطريقة تمكنها من تكديس موارد طائلة من المال تختفي في طي الكتمان، هذا في أوقات الرخاء على الأقل .. وعندما تسوء الأحوال، فإن هذه الشركات تجد ما تركن إليه. وبمقتضى قوانين المحاسبة الألمانية، فإنه مكن للشركات أن تزيد كثيرا من المخصصات وأن تسرع بالإهلاك في ميزانياتها بحيث تبدو أرباحها أضأل ما يمكن.

ومن الأمثلة الشهيرة: “دويتش بانك”، الذي يقال أنه حالو أن يدرج قيمة ناطحة السحاب التي اتخذها مقرا عند افتتاحه بمارك ألماني واحد. وكان تبرير ذلك أن هذا المبنى أقيم ليكون مقرا للبنك وبذلك فلا قيمة له لأي جهة أخرى وبالتالي فهو لا يساوي شيئا! حتى لو لم تصح هذه القصة، ولو كانت مجرد “نادرة” فالحقيقة التي لا تنكر هي أن النظام المحاسبي الألماني معد بحيث يمكن إنقاص الدخول القابلة للتوزيع على حملة الأنصبة والتي تخضع للضريبة، إلى أدنى حد ممكن.

الألمان من أكثر الناس حرصا على خصوصية أعمالهم والاحتفاظ بسرية ما يريدون له أن يبقى سرا.

لقد قامت معجزة الصحو الاقتصادي في ألمانيا على ثلاث دعائم:

• مهارات رفيعة المستوى لدى العمال الصناعيين.
• أخلاق ومبادئ تتسم بالصلابة والحذر في المعاملات والأعمال.
• نظام مصرفي شديد القوة وإن يكن مثيرا للعجب والتساؤل.

4 Comments
  1. عمار says

    شكرا لك على المقالة فادتني جدا ، بعد عدة أشهر سوف أتوجه إلى ألمانيا لدراسة إدارة الأعمال، إذا كان لديك أي معلومات في هذا الشأن فاتمنى أن تكتبها في مقالات لاحقة وشكرا مرة أخرى.

  2. ahmed mamon says

    شكرا لك على المقال..وإن شاء الله التجربة العربية قريباً جداً

  3. خالد عبد الحميد says

    أشكرك شكراً جزيلاً على الطرح وطريقة العرض

  4. شكرا says

    شكرا للموضوع الجميل .. به بعض الاخطاء الطباعية ..

    أنشأها : الحقبة التي اشها الألمان
    الأن : وما زال حتى الكن في قمة النشاط
    بل علي : وعلى على التمويل المتطور..
    يمكن : فإنه مكن للشركات
    حاول : يقال أنه حالو أن يدرج

Comments are closed.

%d